29‏/10‏/2014

بطلان حد الرجم في الإسلام

صدمت الإنسانية بكل انتمائتها الدينية واللادينية بمشهد رجم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لامرأة بتهمة الزنا، ومع أن المسلمين خاصة وأهل الكتاب عامة يعلمون بوجود مثل هذا التشريع في تراثهم الديني إلا أن توقف ممارسته في العقود الماضية أوحى بأن فقهاء الدين قد اعتمدوا ما يسميه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بـ “التأويل العقلاني” للنصوص الدينية، حيث يتم قراءة النصوص بعيدا عن التأويل التقليدي المرتبط بالدلالات الظاهرة للألفاظ، وحين كانت داعش تقوم بفضح أسوأ عورات تراثنا الديني وأشدها قبحا وفظاعة، إذ بنا نكتشف بأن هذا التشريع المنسوب إلى الشريعة الإسلامية ما زال معمولا به في عدة دول عربية وإسلامية تدعي أنها تحارب داعش وأنها على خلاف فكري وعقدي معها. بيد أن هذه الدول قد جمدت تطبيق مثل هذه الممارسة لا إيمانا منها بإنسانية الشريعة وضرورة مراجعة التراث الفقهي وإنما نتيجة الخوف من انتقاد المؤسسات الحقوقية الدولية. لقد وضعتنا داعش أمام مواجهة صارخة لحقيقة أن ما قامت به لم يكن هرطقة ولا تأسيس لشرع جديد بل هو تعرية لقبح حاول المسلمون موارته بعيدا أو دسه في التراب.
إن الحكم بقتل الزناة وغيرهم بمثل هذه الصورة القاسية ليس خاصية إسلامية خالصة بل هو تشريع يعود إلى أقدم الشرائع المكتوبة وأشدها تطرفا على الإطلاق وهي شريعة حمورابي (1800 ق م) حيث جاء في المادة 129 من القانون البابلي “إذا قبض على امرأة مضطجعة، مع سيد فيجب عليهم أن يوثقوهما ويلقوهما في الماء”. أما القتل رجما بالحجارة فقد ابتدأ مع الميثولوجيا الإغريقية حيث جاء في أسطورة أوديب الإغريقي الذي قتل والده وتزوج أمه أنه طلب من الناس قتله بالحجارة لتطهيره من هذا الإثم. كما أورد هيرودوت (ق 5 ق.م) في الكتاب التاسع من تاريخه قصة رجم الأغريق لـ”ليسايدس” وزوجته وأطفاله بتهمة التآمر مع الفرس.
ويبدو أن اليهود الذين انتقلوا من عبودية البابليين إلى أسر الرومان وخلال الفترة التي أعادوا فيها تجميع نصوص التوراة وكتابة ما فقد منها، قد مزجوا بين التشريع البابلي بقتل الزناة، وبين استعمال وسيلة الرجم بالحجارة االمعهودة في الثقافة الإغريقية والرومانية، ولا يبعد أن تكون قصة قتل قابيل ضربا بالحجارة لأخيه هابيل الواردة في التوراة ناشئة من هذا المنبع، لقد حتمت الظروف القاسية التي مر بها المجتمع اليهودي بداية من سقوط مملكة إسرائيل مرورا بالسبي البابلي وانتهاء بالاحتلال الروماني على أحبار اليهود اعتماد آليات فقهية لتحصين المجتمع من التأثر بثقافة المحتل الوثنية، لذلك توسعوا في الأحكام الفقهية وعمدوا إلى المبالغة في تشديد العقوبات على المخلين بنظام المجتمع، لذلك لم يكن مستغربا توسعهم في استخدام الحدود خاصة حد القتل رجما بالحجارة حيث تجد في التوراة أن الرجم ليس عقوبة للزنا وحسب بل هو أيضا عقوبة لكل من يعتدي على حرمة السبت، وكل من يتمرد على سلطة الأبويين. ويضيف التلمود إلى تلك القائمة رجم السحرة ورجم كل من يدعو إلى عبادة الأوثان. ثم تسربت ثقافة الرجم بالحجارة من اليهودية إلى النصرانية حيث جاء في الإصحاح 20 من سفر اللاويين أن القتل رجما بالحجارة مستحق على الزناة ومن تلبسهم الجان ومن تقرب بزرعه إلى مولخ.
ونتيجة للانتشار السريع للإسلام ودخول شعوب كثيرة وثقافات عديدة في ظل دولة الإسلام التي تمددت بوتيرة أسرع من تمدد ثقافتها الخالصة، جاءت الثقافة الإسلامية خليطا من الموارد والاتجاهات، فإضافة إلى الثقافة الإسلامية الجديدة الناشئة من احتكاك المسلمين الأوائل بالنص القرآني وجدت في الدولة الإسلامية بقايا من آثار الثقافة العربية السابقة على الإسلام، إضافة إلى ثقافة الأمم غير العربية التي دخلت في حوزة دولة الإسلام كيهود الجزيرة العربية ونصارى العراق والشام ومصر ومجوس الدولة الفارسية، وحين شرع المسلمون في تدوين تاريخهم الديني وتراثهم الفقهي في منتصف القرن الثاني الهجري ظهرت إشكالات كثيرة مرتبطة بصعوبة تمييز النصوص المتعلقة بسيرة النبي وهديه باعتبارها والقرآن الكريم النصوص المؤسسة للثقافة الإسلامية الخالصة وفصلها عن نصوص الثقافات الأخرى، وقد عرفت هذه الظاهرة في التراث الإسلامي بظاهرة “الإسرائيليات” وهي تسمية تجسد عملية الاختراق الثقافي غير المسلم في النصوص التي نسبت بعد ذلك إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها “سنة” النبي عليه الصلاة والسلام، وقد حاول المشتغلون بالجمع الروائي وضع آلية لتنقية “السنة” من الدخيل عليها، لكن تلك التقنية كانت من السذاجة بمكان حيث اعتمدت اعتمادا مطلقا على عملية “توثيق” الرواي، ذلك التوثيق الذي كان يوزع صكوكه أهل الرواية أنفسهم إنما يقوم على استقراء لظاهر سيرة الراوي وحفظه واتجاهه المذهبي وموقفه السياسي بعيدا عن درجة علمه أو فقهه أو مدى موافقة تلك الروايات لدلائل العقل أو نصوص القرآن أو حتى السياق التاريخي.
ومن بين القضايا التي لا شك أنها تسربت إلى الثقافة الإسلامية أثنا عملية الجمع الروائي هو الحكم المتعلق بعقوبة الزاني المحصن، فبعد أن أوضح القرآن الكريم عقوبة الزاني بصورة لا تقبل الشك ولا الجدل وهو الجلد مائم جلدة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تومنون بالله وباليوم الآخر) النور: 2. إذا بنا نجد روايات أهل الحديث والأخبار تضيف أحكاما من كيس الثقافات السابقة على الإسلام تدعو إلى رجم الزاني المحصن بالحجارة حتى يلفظ أنفاسه.
وقد أثار هذا الرأي انقساما في جسد الأمة، حيث قبله الفقهاء الذين يعتمدون التوثيق كمرجعية في قبول النصوص التشريعية، وعارضه الفقهاء الذين يعتمدون مرجعية القرآن كميزان لقبول الروايات إضافة إلى مرجعية النقد العقلاني. يقول ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري: (وقال ابن بطال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن ، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج).
وقد أوضح الرازي في تفسيره حجة من اسماهم “الخوارج” في رد حكم الرجم حيث قال في تفسير سورة النور 2: (الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه. أحدها: قوله تعالى : (فعليهن نصف ما على المحصنات) [النساء: 25] فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق، لكن الرجم لا نصف له. وثانيها: أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة، ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا، ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله: (ولا تقربوا الزنا) [الإسراء: 32] ثم توعد عليه ثانيا بالنار كما في كل المعاصي، ثم ذكر الجلد ثالثا، ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعا، ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله) خامسا، ثم أوجب على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة. وسادسا، لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه، ثم قال سابعا: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) [النور: 4]، ثم ذكر ثامنا من رمى زوجته بما يوجب [ ص: 118 ] التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ، ثم ذكر تاسعا أن (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) [النور: 3]، ثم ذكر عاشرا أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة , فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلا وكثيرا لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها، ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعا لكان أعظم الآثار، فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب. وثالثها: قوله تعالى : (الزانية والزاني فاجلدوا) يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة، وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو غير جائز، لأن الكتاب قاطع في متنه، وخبر الواحد غير قاطع في متنه، والمقطوع راجح على المظنون)
وقد أجاب ابن قدامة الحنبلي في كتابه “المغني” على اعتراض المعارضين لحكم الرجم بالقول (وقالوا : لا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين ، لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها ، ولأن هذا يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة ، وهو غير جائز . ولنا ، أنه قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله ، في أخبار تشبه المتواتر ، وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سنذكره في أثناء الباب في مواضعه ، إن شاء الله تعالى ، وقد أنزله الله تعالى في كتابه ، وإنما نسخ رسمه دون حكمه ، فروي عن {عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأتها وعقلتها ووعيتها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله . فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف ، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم } متفق عليه . وأما آية الجلد ، فنقول بها ، فإن الزاني يجب جلده ، فإن كان ثيبا رجم مع الجلد ، والآية لم تتعرض لنفيه . وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد شراحة ، ثم رجمها ، وقال : جلدتها بكتاب الله تعالى ، ثم رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم لو قلنا : إن الثيب لا يجلد لكان هذا تخصيصا للآية العامة ، وهذا سائغ بغير خلاف ، فإن عمومات القرآن في الإثبات كلها مخصصة . وقولهم : إن هذا نسخ . ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ، ثم لو كان نسخا ، لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه).
إن اعتماد المحدثين في هذه القضية على أخبار تتهم القرآن الكريم بالنقص وعدم أمانة الصحابة في تدوين بعض آياته غير خافية، إضافة إلى قولهم أن الروايات تنسخ “تلغي” أحكام القرآن مع أن هذا مناقض لموقف كبار أئمتهم، حيث يقول الإمام الشافعي في الرسالة: (السنة لا ناسخة للكتاب وإنما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصاً ومفسرة ما أنزل الله منه مجملا). ويقول الرازي في تفسير سورة الأنعام 147: (ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز)، وقال أيضا في تفسير سورة النساء 15: (هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز).
وهروبا من القول بالنسخ زعم بعضهم أن الرجم ليس نسخا لحكم القرآن بل هو تخصص لعمومه، مع أن جواز تخصيص أحكام القرآن بالروايات مسألة مختلفة فيها بينهم، فقد قال الرازي الشافعي في تفسير سورة البقرة 184 نافيا جواز تخصيص القرآن بالروايات: (أقصى ما في الباب أنه يروى خبر واحد في تخصيص هذا العموم، لكن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز). وقال في تفسير سورة المائدة 38-40: (لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد أو بالقياس، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والقياس غير جائز). وقال القاضي البهاري الحنفي في “مسلم الثبوت”: (لا يجوز عند الحنفية تخصيص الكتاب بخبر الواحد)، وقد علل اللكنوي في “فواتح الرحموت” هذا الرأي بالقول: (وفيه أن أخبار الآحاد في الأكثر عامة، فعلى فرض ظنية العام الخبري ظني المتن والدلالة، فظنه أضعف من ظن الكتاب، ومن الضروريات ترجيح الراجح. “أقول مع ابتنائه على ظنية العام”: وهي ممنوعة فإنا بينا أنه قطعي “يرد عليه أن قطعية دلالة الخبر ضعيف لضعف ثبوته، لأن الدلالة فرع الثبوت” وإذ في الثبوت شبهة، ففي الدلالة بالطريق الأولى ففيه شبهتان، شبهة في نفس ثبوت الخبر، وشبهة في الدلالة “بخلاف قطعية الكتاب” إذ فيه شبهة الدلالة فقط “فلا مساواة” فلا تعارض، فلا جمع، بل يقدم الراجح).
ونتيجة لطغيان ثقافة التقليد وتفشي العقلية الإخبارية في الأمة لم تحظ هذه المسألة بمراجعات حقيقية إلا في العصر الحديث، حيث روى يوسف القرضاوي أن فقيه الأزهر البارز محمد أبو زهرة فاجئ الحضور في ندوة مقامة في ليبيا بإنكار الرجم اعتمادا على ثلاثة أدلة: (الأول: أن الله تعالى قال: “فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب” [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” [النور: 2]. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم.. هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق).
كذلك استدل المفكر الإسلامي محمد مختار الشنقيطي في رد روايات الرجم بقوله أن (جل أحاديث الرجم يتضمن طعنا في حفظ القرآن الكريم، فمن قال بالرجم فهو قائل ضمناً بتحريف القرآن -والعياذ بالله- لأن أغلب أحاديث الرجم تفيد ذلك. أطبق علماء المعتزلة على إنكار الرجم منذ القديم.. وقد أصابوا في ذلك وأحسنوا إذ تشبثوا بالقرآن واطّرحوا الآثار المناقضة له).
على الأمة اليوم لكي تنهض حضاريا أن تقوم بعملية مراجعات حقيقية لكل تراثها خاصة ذلك التراث الذي أحيط بالقدسية والعصمة بسبب نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذه المراجعة يجب أن لا تستند على الطرائق النقدية التقليدية القائمة على الثقة بالرواة وإجماع المذهب، بل عليها أن تتحرر من أسر هذه المناهج التي تكرس التقليد والرجعية والجمود، على الأمة أن تنطلق في فضاء المناهج العلمية الحديثة كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والهرمونطيقيا والألسنيات وغيرها، وعليها أن تعيد الاعتبار للقرآن الكريم باعتباره المرجعية العليا للأحكام الشرعية، بمثل هذه المراجعات النقدية، والقراءة العلمية لتراثنا الديني نستطيع تنقية الشريعة الإسلامية من مثل هذه الممارسات الفظيعة التي تقوم بها المنظمات الإرهابية التي تشوه سماحة الإسلام.

المصدر : http://www.alfalq.com/?p=7027