22‏/09‏/2014

هل فعلا المعتزلة مارسوا إرهابا فكريا تجاه خصومهم


 الملاحظ يا سادة بالدراسة التاريخية التي قام بها الكثير من الباحثين المتخصصين كالدكتور فهمي جدعان والجابري و الوريمي والسمهوري وغيرهم أن المعتزلة براء من موضوع " المحنة " كتيار، فهم أولا مع حرية الدين والمعتقد، ومع الحوار وصراع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وضد إكراه الناس على معتقد بالقوة، والقوة الوحيدة التي يرونها في مثل هذه المسائل هي الدليل والحجة والبرهان، ولكن ما حدث في الصراع بين الأمين والمأمون واصطفاف حشوية أهل الحديث مع الأمين أدى ذلك أن يسرها لهم المأمون في نفسه، حتى إذا استحكم أعد لهم حسابا عسيرا، وهو امتحانهم ( فالمسألة كانت مسألة تصفية حسابات سياسية )، خصوصا أن كثيرا ممن امتحن المحدثين كان من الجهمية والضرارية وغيرهم ممن يقول بخلق القرآن، فكما تعلمون فالمعتزلة ليست هي المدرسة الفكرية الوحيدة التي تقول بأن القرآن مخلوق، وفي هذه الحقيقة يقرر ابن تيمية فيقول : ((( فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمي البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين أو أكثرهم لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميًّا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة
 ا.هـ (مجموع الفتاوى 17: 299).
وكما يصرح ابن تيمية أيضا في كتاب النبوات ـ وهو من أواخر ما كتب ـ (ص211 طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق أبو صهيب الرومي وعصام الحرستاني، عام 1422هـ)، يقول:وكذلك الإمام أحمد خصومه من أهل الكلام هم الجهمية الذين ناظروه في القرآن مثل أبي عيسى برغوث وأمثاله، ولم يكونوا قدرية، ولا كان النـزاع في مسائل القدر، ولهذا يصرح أحمد وأمثاله من السلف بذم الجهمية أكثر من سائر الطوائف. ا.هـ ))).
ومن يلاحظ سياسات المأمون يعلم أنها ليست سياسات معتزلية، وليست من قضايا المعتزلة مثل: تولية العهد لعلي بن موسى الكاظم، وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة وإعلان لعن معاوية على المنابر وإعلان أفضلية علي رضوان الله عليه، وإجازة زواج المتعة وغيرها من مسائل !!!!!.
وللعلم فإن المأمون كتب بالمحنة وقاضي قضاته هو يحيى بن أكثم الحنبلي !!!! وكتبها من طرسوس وطرسوس معقل الجهمية وليس المعتزلة .
ولكن عند انهاء المحنة على يد المتوكل فوجد خصوم المعتزلة فرصة ذهبية للتخلص من أقوى اعدائهم الفكريين، ووجد أصحاب الأنظمة الوراثية وأكل أموال الناس بالباطل نفس الفرصة في إصدار واحدة من أكثر فضائح ومخازي التاريخ عارا الوثيقة القادرية لقمع المعتزلة وتصفيتهم والتخلص منهم.
ثم بدأت آلة تزوير الوعي، والتشهير الإعلامي والكذب والدعاية السوداء في شن أكبر حملة تلطيخ سمعة وتشويه لواحدة من أنبل التيارات الفكرية الإنسانية وهم المعتزلة.


أثر الفكر الفلسفي الإسلامي في اليهود

الدكتور علي سامي النشار

كانت أكاديمية بابل مزدهرة في ذلك العهد , وكانت تلمودية , تدين بالنص المكتوب وبالنصوص الشفوية . ولكن الدنيا كانت تتحرك حولهم , وكانت الفلسفة الإسلامية المنبثقة عن فكر إسلامي أصيل تتكون – أو تكونت فعلا . وفي أكاديمية سورات , إحدى أكاديميات بابل اليهودية , كان الربانيون هم المسيطرون على الحركة اليهودية . كانوا – كما قلت – عن اليهودية عامة يعيشون في أعماق النصوص المكتوبة , وفي الوقت عينة يتمسكون أشد التمسك بالنصوص الشفوية . كانت المدارس التلمودية تسيطر على جمهور اليهود . 

ولكن الفكر المعتزلي الإسلامي ما لبث أن نفذ إلى رجال هذه المدرسة فظهر أحد علماء اليهود في عهد أبي جعفر المنصور , يبشر بحركة عقلية جديدة " وهو عنان بن داود " وينشئ فريقا جديدا مقابلا للربانيين وهو فريق القرائيين . وقد أعلن عنان الثورة على الربانيين , وعلى سلطاتهم الدينية , ونقض القوانين التقليدية , كما دعا إلى استخدام العقل ومبدأ البحث الحر . ولقد كان في هذا صدمة كبرى للربانيين , كانت الربانية مركز الاعتقاد اليهودي , تحافظ على وحدتهم طبقا لمعتقدات واحدة , وكانت تؤمن بالنص المكتوب كما تؤمن بالتقاليد الشفوية التي وصلتهم خلال التاريخ والأجيال المتعاقبة . فما إن ظهر عنان بن داود يعلن المذهب القرائي حتى ثارت ثائرة الربانيين . مع أنه من الجدير بالملاحظة أن عنان بن داود لم يهدم التقليد الشفوي تماما ولم يرفض – كما فعل الصدوقيون من قبل أي تفسير من أي نوع للتقليد , إذ ألقى فقط بالفكرة التي تقول : ينبغي أن تكون النصوص – مكتوبة أو شفوية – منسجمة – مع العقل . أو بمعنى أدق إنه يعلن : أن النقل والعقل لا يتعارضان . وسمى أتباعه أنفسهم بالقرائيين – والكلمة في أصلها " كرائيم " أي النصيين , - أي أتباع النص المكتوب , لا الرواية الشفوية . ثم تغيرت واشتهرت باسم القرائيين وكان القراء ون – أول من القوا في اليهودية بأول مذهب لا هوتي منسق وعقلي , ويؤيده النظر الفلسفي . كان القراء ون أثرا من أثار المعتزلة , بل كانوا تابعيها في التراث اليهودي . لقد اتخذ القراء ون اليهود المعتزلة مثالا لهم واتخذوا اسم "المتكلمين " وسما لهم . بل إن المسعودي يصف القرائيين بنفس الوصف الذي يصف به المعتزلة " أهل العدل والتوحيد " ويقول القرائي اليهودي أهرون بن إيليا صراحة إن القرائين وقسم كبيرا من الربانيين تابعو مذاهب المعتزلة بل إن كتاب خوزاري اليهودية يذكر " أن ملك الحزب طلب أن يعرض عليه في إيجاز آراء الاصولين القرائيين , وهم أصحاب علم الكلام . ويقول موسى بن ميمون في دلالة الحائرين إن القرائيين استعاروا حججهم ن لمتكلمين المسلمين . وأن الغاية من استعادة هذه الحجج – هي إقامة العقائد الأساسية لليهودية على أساس فلسفي . ويذهب مونك إلى أن المتكلمين المسلمين واليهود – بدءوا يستخدمون المنهج الجدلي الأرسطي – وكان هذا المنهج بدأ أن يدخل في العالم الإسلامي – لكي يقطعوا به المذاهب الفلسفية للفيلسوف الاستاجيري . وهذا خطا , وسيردده مستشرق يهودي آخر هو جولدتسيهر . أن مكلمي الإسلام – معتزلة كانوا أم أشاعرة – لم يستخدموا المنهج الجدلي أو المنطق الارسططاليسي , بل كان لهم منطق أخر , أجملت عناصره من قبل , وسيضيق موسى بن ميمون , وهو فيلسوف ارسططاليسي بهذا المنهج الكلامي وسيهاجمه – من وجهة نظر ارسططاليسية – متابعا ابن رشد . وسيجري ورائهم بعد ذلك في نفس الاتجاه توما الإكوني .

أما القضايا الرئيسة التي قام القراءون بالدفاع عنها فهي : أن المادة الأولى ليست قديمة إن العالم مخلوق وبالتالي فإن له خالقا . إن هذا الخالق وهو الله , لا بدء له ولا نهاية , إنه غير جسم , ولا تحيط به حدود المكان , أن علمه يحيط بكل الأشياء . وحياته إنما هي العقل , بل هي التعقل المحض . إنه يفعل بإرادة حرة وإرادته متوافقة مع سموه وقدرته وتنزهه . كل هذه القضايا , قضايا معتزلية يذهب القراءون وراء المعتزلة فيها , ويتابعونهم فيها متابعة تامة .

ولق ازدهر القراءون لفترة من الزمن . كما ازدهر المعتزلة لفترة من الزمن أيضا . وكان منهم يافت بن صاعير – وهو مؤلف قرّائي عربي ( ازدهر ما بين القرن الثالث عشر الميلادي والقرن الرابع عشر ) , وقد وضع سلسلة طويلة للرواية اليهودية الحقيقية أو للتقليد أو للسنة اليهودية الحقيقية , ممتدة من جيل إلى جيل , مبتدئة بموسى ومنتهية بعنان , أو بمعنى آخر إن القرائيين وضعوا من السند التقليد الصحيح ..... وقد وصل السند من موسى ... حتى شماريا , ونقله اشماريا إلى ابنه رابزيلا – ومن رابزيلا إنتقل إلى عنان . وكان عنان في رأي يافت ابن صاعير , أول من أظهر المذهب الصحيح ببراهين بينة وألهم الحقيقة التي بقيت زمنا طويلا مخفية , ويقول إنه ضحى بحياته لأجل عقيدة في أيام المنصور .

أما الشخصية القرائية الثانية الهامة , فهي شخصية داود بن مروان المقمس الرقي . وقد نشأ في الرقة في العراق ثم تحول إلى المسيحية , حيث درس الفلسفة واللاهوت تحت إشراف أستاذ مسيحي في مدرسة الرقة الفلسفية المشهورة , ثم عاد فاعتنق اليهودية . ويشك فيدا في أنه كان قرائيا بل يرى أنه كان أقرب إلى الربانيين . وكتب كتابه الذي وسم باسمه المقمس بالعربية . ويسمى الكتاب أيضا " العشرون مسألة " . وقد أشار إلى كتابه – فيما بعد – كتاب من الطائفة الربانية . وهذا يثبت أنه لم يكتب ضد الربانيين , وأنه إنما اشتغل بالعقائد الأساسية التي قبلتها الطائفتان , ولا تحتوي كتاباته على أي جدال ونقض للربانيين . وإنما يذهب بهيا بن فاقوده في كتابه المشهور " واجبات القلوب " إلى أن المقمس حاول في كتابه أن يثبت عقائد الدين بالعقل , وأن يناقش أعداء الدين بنفس الوسيلة . وأهم العقائد التي يعرضها المقمس , هي أن العالم كعالم صغير Microcosme هو المخلوق الأكمل , وأنه يشغل درجة أسمى من درجة الملائكة . والملائكة في التوراة موجودات سماوية , وأن الإنسان في مكان أدنى قليلا منها . ولكن المقمس , وهو يقدس العقل والقوى العقلية – متابعا للمعتزلة , يرى أن في الإنسان كل ما في الملاك , ثم يزداد عنه بصفات أخرى .

أما الشخصية الثالثة الكبيرة من القرائيين , فهو أبو يعقوب البصير واسمه اليهودي جوزيف هاروح . وقد كتب بالعربية كتاب "المحتوى " وفي الكتاب عرض لكل النظريات التي ينسبها موسى بن ميمون للمتكلمين المسلمين . يعرض أبو يعقوب البصير في هذا الكتاب لنظرية الجزء الذي لا يتجزأ , أي النظرية الذرية ويرى تغيرات الذرة الطبيعية إلى ظواهر أربعة , الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. ويتكلم عن صفات الله كما يتكلم أي معتزلي , بل يخوض في بعض نظرياتهم ويعتنقها – مثل الإرادة الإلهية – الحادثة لا في محل Sans abstranm أما البراهين التي يثبت بها وحدة الله وعدم جسميته والخلق من عدم فهي هي نفسها براهين المتكلمين .
وقد تابعه تلميذه جوزيه بن جوده . ثم ظهر يعقوب القرقيشاني وكتب بالعربية كتاب "الأنوار والمراقب " وهو يكاد يكون كتابا معتزليا خالصا .

أما الربانيون أتباع التلمود , فقد تابعوا مثال العلماء القرائيين في إقامة بنائهم الديني مستخدمين ايضا طرق العقل والبراهين , وقد أمدتهم " فلسفة العصر " أي فلسفة المتكلمين المسلمين بكل هذا . وأول فلاسفة الربانيين ومتكلمهم هو سعديه بن يوسف الفيومى . وقد اعتبره مؤرخو الفكر اليهود أنفسهم من الأقدمين والمحدثين , أعظم رجال الفكر اليهودي قاطبة , إذ أنه كان أول العلماء الربانيين الممثلين لتاريخ اليهود , الذين اقبلوا على استخدام العقل والبرهان لإقامة فلسفة يهودية أو لاهوت يهودي يستند على الكتاب والعقل معا . 

ولقد لاحظ فيدا أن الإمام أبا الحسن الأشعري قد ظهر في زمن سعديه الفيومي , وأن الإمام الأشعري قام بثورة ضد المعتزلة , واعتنق مذهب أهل الحديث , ثم حاول أن يثبت هذا المذهب بالعقل , أو بمعنى أدق أنه قرر وضع النص أولا , ثم يليه العقل . ولكن هل موقف سعديه , وهو رباني يثبت النص أولا , ثم يؤيده بالعقل شيبه موقف الأشعرية لاشك أن سعديه فعل هذا . ولكن نرى أنه احتضن المذاهب المعتزلية . أي أنه اتخذ مذهبه من الأشعرية , ومادته من المعتزلة . وسنرى فيما بعد أن من مفكري اليهود, من يتخذ منهج الأشعرية ومادتهم . 

وقد كتب سعديه الفيومي فلسفته الكلامية في كتاب بالعربية اسمه " الأمانات والاعتقادات" "والأمانات" تشير إلى العقائد الدينية , والاعتقادات تشير إلى المعارف المكتسبة بواسطة البحث العقلي . ويذكر فيدا أن سعديه الفيومي تابع الكلام المعتزلي في تنسيق أبواب الكتاب وفي مادته .
أما عن متابعة المعتزلة , في تنسيق أبواب الكتاب , بل في تناولهم لموضوعاتهم , فإننا نعلم أن المعتزلة كانوا يبدءون فلسفتهم الكلامية ببحث مشكلة قدم العالم أو حدوثه , ثم ينتقلون إلى البحث في الله وصفاته . وكذلك فعل سعديه الفيومي. ثم إن الكلام المعتزلي قد أقيم – كما نعلم – على خمس أصول : التوحيد والعدل والوعد والوعيد , والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد تابع سعديه هذه الأصول واعتنقها , وبحثها في فصول متتابعة في كتابه .
إن ما أود أن أنتهي إليه هو أن سعديه الفيومي أثر من آثار المعتزلة – لقد أعطى العقل سلطة كبرى – إن العقل – عنده – الحق في أن يتفحص العقيدة الدينية وينبغي أن تفهم بواسطته , حتى يتمكن من الدفاع منها أمام " الهجمات الخارجية ". إن العقل يعلمنا نفس الحقائق التي يعلمنا إياها النقل , ولكن النقل ضروري لكي يجعلنا نصل بسرعة إلى معرفة أسمى الحقائق , أما إذا خلينا العقل بذاته , فإنه لا يجعلنا نصل إليها إلا بجهد طويل. 

ثم خاض في كل ما خاض فيه المعتزلة قبله – وحدة الله وصفاته, والخلق, والنقل والعقل, وطبيعة النفس الإنسانية والسلوك الإنساني ... وطبق العقل – كما فعل المعتزلة – على – الأخبار الواردة عن الملائكة والجن والشيطان , وحاول تفسير كل هذا تفسيرا عقليا. دافع عن النبوة , كما دافع المعتزلة , وهاجم الفيلسوف الأفلاطوني الملحد محمد بن بكر الرازي , كما هاجمه المتكلمون المسلمون . وهاجم المقولات الأرسططاليسية – كما فعل المعتزلة , وأثبت – على طريقتهم أنهل لا تنطبق على الله . وبرهن على الخلق من لا شئ أو من عدم , وهو في هذا يحارب الفلسفة اليونانية التي تقرر قدم المادة , وهو يتابع المعتزلة أيضا حين أثبت حرية الإرادة الإنسانية بحجج تشبه أو هي هي حجج المعتزلة .
هذا هو سعديه الفيومي , أول من فلسف لاهوت الربانيين , واعتبره اليهود حتى الآن – فيلسوف التوراة الحقيقية , مهد السبيل للربانيين – جمهور اليهود , لاستخدام العقل , ووضع في أيديهم الحجج البرهانية , لإثبات عقائدهم , وتعقلها . وكان له أكبر الأثر في الفكر اليهودي من بعده: ولم يكن سوى تلميذ صغير للمعتزلة .

وبدأت الفلسفة الإسلامية المشائية تظهر على أيدي الكندي ومدرسته , ثم الفارابي .... ولسنا هنا في مجال تأريخ تكونها . إن آراء هذه المدرسة قد انتشرت إلى المغرب ثم إلى الأندلس . وفي القيروان وتحت تأثير هذه المدرسة – والفارابي منها بالذات – تكونت مدرسة القيروان اليهودية , مدرسة عنيت – كعادة اليهود – بالطب والسحر والسيمياء والكيمياء , وكان لابد لها أن تعالج الفلسفة , وكان أول رجال هذه المدرسة أهمية هو إسحق إسرائيلي ( 850- 950م) وقد كتب كتابين كتاب التعريفات وكتاب المبادئ . وكتاباته عرض مختلط يحوي دراسات منطقية وميتافيزيقية وطبية . وآراؤه الفلسفية هي صدى وانعكاس للآراء المدرسة الإسلامية المشائية أو بمعنى أدق الأفلاطونية المحدثة , ومحاولة التوفيق والتنسيق بين الدين والفلسفة اليونانية هذه الممتزجة من عناصر أفلاطونية وأرسططاليسية وأفلاطونية محدثة . ولقى بحث إسحاق إسرائيلي الفلسفة – متبعا فلاسفة – الإسلام - بأنها هي البحث في الله من حيث هو , ومن حيث استطاعة القدرة الإنسانية التوصل إليه و إلى معرفته . ويرى أن تعريف الفلسفة على هذا الأساس وهو تعريف مستمد من فقرة لتيتاوس كتبها أحد شراح أرسطو من الأفلاطونيين المحدثين , لا يتعارض إطلاقا مع فكرة التوراة المثالية أو فكرة التلمود في تعريف الله والبحث عنه .

ثم يقبل إسحاق إسرائيلي فكرة الخلق, ويميز بوضوح بين الفعل الإلهي في الخلق من عدم, وتولد الأشياء الطبيعية الذي ينتج عن مادة مجردة موجودة وجودا سابقا. ويقرر أن الله خلق العالم, لأن الله أراد أن تظهر خيرته وحكمته في الوجود. ولكن هذه الفكرة التي لا تتفق مع التصور المجرد السلبي الذي وضعته الأفلاطونية المحدثة عن الإلوهية , ما يلبث أن يربطها إسحاق إسرائيلي بفكرة الفيض الأفلاطوني , فمن العقل تفيض النفس بمختلف درجاتها , وفي درجة أدنى من النفس ينتج فلك السماء الذي يمتد بفعله على الطبيعة . إن هذه السلسلة تتفق تقريبا مع ثالوث الأفلاطونية المحدثة : العقل والنفس والطبيعة .

إن التخبط الفكري الذي نجده لدى الفلاسفة الإسلاميين المشائين وبخاصة الفارابي , إنما نجده لدى إسحاق إسرائيلي , وقد تابعه جيلان من أجيال مدرسة القيروان , فنراه لدى دوناش ابن تامين في تعليق له على سفر يسيره , وهو يعلن في مقدمة تعليقه : أن الحكمة اليهودية القديمة , لو أحسن تفسيرها , لانتهت إلى اتفاق تام مع النتائج التي لا تنقض العلم والفلسفة . ونرى نفس الاتجاه لدى يهودي ايطالي أسرته البحرية الإسلامية , وعاش مدة في شمال أفريقيا, ثم عاد إلى إيطاليا , وهناك كتب تفسيرا آخر لسفر يسيره أسماه هاكموني . وقد تأثر فيه خطى المدرسة المشائية الإسلامية الأولى .
ويظهر سالومون بن جبرول (1020-1050م ) ويحاول مونك أن يثبت أصالة ابن جبرول في فلسفته , ولكن من الثابت أنه كان تلميذا لابن مسرة : الفيلسوف والصوفي الأندلسي .

ولكن ما لبث الكلام الإسلامي أو الفلسفة الإسلامية الخالصة, أن تظهر واضحة في الفكر اليهودي. وذلك حين نفذت في أعماق كتاب لأحد قضاة الكنيس اليهودي الرباني في الأندلس – أما هذا القاضي اليهودي فهو بهيا بن فاقودة . وقد كتب أيضا بالعربية " كتاب الهداية إلى فرائض القلوب " ويرى فيدا أن اسم الكتاب نفسه مأخوذ من مصطلح معتزلي قديم , فقد استخدم المعتزلة القدامى " فرائض القلوب " أو "أعمال القلوب" مقابلة لفرائض الجوارح أو أعمال الجوارح . والكتاب هو عن حياة الإنسان الباطنية , وعن المعراج الذي ينبغي أن يتخذه المؤمن للوصول إلى النور الإلهي الأسمى . ولقد عرض بهيا في مقدمته لكتابه الى السبب الذي دعاه لكتابته , وهو أن القرن الذي كان يعيش فيه نسى الحياة الباطنية . إن العامة قد انكفأوا على العبادات والطقوس في تقليد مستعبد, وحركات خالية من القلب الحاضر, وبدون تعقل فانعدم التأمل والنظر . أما عن الحواس فقد تحجرت قلوبهم بظواهر الشريعة التلمودية, ونسوا العنصر الأساسي للدين. ولذلك كتب هو كتابه " شفاء للناس " من هذه النكبات – وكقائد لهم نحو حياه روحية حقه. ويذكر بهيا أن حكماء إسرائيل القدامى لم يهملوا أبدا أو لم يستصغروا هذه الروحية , إنهم قدروها حق قدرها , ولكنهم إذا كانوا لم يتركوا تعليما متماسكا ومتناسقا ومنظما في هذا الموضوع , فذلك لأن من الملحوظ غياب التنظيم والتنسيق لدى حكام بني إسرائيل الأقدمين في هذا الموضوع وفي غيره من الموضوعات وأن التلمود والمدارش – في رأي بهيا بن فاقوده , مليئان بالمواد اللازمة لبناء النسق الروحي , وان عليه هو أن يكتشف هذه المواد وأن يضعها في نسق . 

ولكن إذا بحثنا كتاب "واجبات القلوب" نرى أنه لم يستعن بهذه المواد الذي يدعي وجودها في أعماق التلمود والمدارش . لقد استعار من المسلمين من متكلميهم ومتصوفيهم. ولا يجد الباحثون اليهود أنفسهم هذه المواد التلمودية أو المدراشية في كتابه إلا عرضا . فكانت كل أمثلته ورواياته إسلامية بحته وإن كان قد أخفى الأسماء الإسلامية – أسماء الرسول محمد صلى الهم عليه وسلم والخلفاء وأولياء المسلمين – من زهاد وصوفية تحت صيغ غامضة وأسماء ملغزة. لم يكن بها سوى صدى للزهد والتصوف الإسلامي. وقد أنكر فيدا أن يكون بهيا قد تأثر بالغزالي , كانا متعاصرين , ويرى أن كتب الغزالي الصوفية الأخيرة , لم تنتشر مباشرة , ولم تصل الى الاندلس الا مؤخرا . وهذا احتمال غير موثوق به , على اية حال : إن بهيا قد تأثر أشد التأثر بالمحاسبي وأخذ منه , وكانت كتب المحاسبي معروفة باتساع في الأندلس, ولقد أثر المحاسبي نفسه في الغزالي .

ولسنا نريد هنا أن نخوض في فلسفة بهيا بن فاقودة من حيث هي فلسفة وأن نعرض لعناصرها وإنما نريد أن نبين الآثار الفكرية الإسلامية فيها وأنها لم تكن سوى صدى لهذه الآثار . 

يرى بهيا أن أساس الحياة الداخلية هو الإيمان المطلق بوحدة الله , ولكن معرفة ذات الله ليست في نطاق دائرة المعرفة الإنسانية , ولا يمكن أن نعرفها إلا بالنظر في آيات الله في مخلوقاته . فإذا تكلمنا عن وحدة الله , وآمنا بها , نتكلم ونؤمن بقدرته وهذا يفرض علينا طاعته , واللجوء إليه . كذلك الإيمان بوحدة الله , يستلزم منا أن نستبعد مشاركة أي كائن له في ملكه , ولذلك كانت طاعة الله وهي اللائقة بجلاله تامة , لا يشاركه في طاعتنا له وجود . فيجب أن تكون أعمالنا إذن خالصة له وحده , ومتطهرة من كل ما سواه , وأن نكون أذلاء أمام سيدنا الأوحد . ولكن الإنسان مع هذا معرض لكل أنواع الخطايا والزلات والهواجس , وهي اختبار لوجدانه وامتحان . وأسلم الطرق لتجنب الخطايا والزلات وهواجس النفس , هو أن يقطع الإنسان علاقته بهذا الكون كله : وهذا هو أول طريق الزهد , ولما كان إرضاء الله هو الغاية السامية للإنسان , وتجنب غضبه هو ما نسعى إليه بكل قدرتنا , فينبغي أن نحقق في أنفسنا ,أن نكيف وجونا للحب الإلهي . 
ويقرر فيدا أن كل هذه الأفكار التي تكون الإطار العام لكتاب " الهداية إلى فرائض القلوب " إنما هي مقامات الحياة الداخلية الباطنية , لصوفية الإسلام . 
ثم يقرر فيا أن وصف بهيا لوحدة الله , إنما هو تركيب من علم الكلام الإسلامي , وبعض آراء الأفلاطونية المحدثة , مستمدة من كتاب " إخوان الصفا" .
ويتضح أثر الكلام الإسلامي الناقد في يوسف بن صديق عضوا في المحكمة الربانية في قرطبة (توفي عام 1149م ) وقد كتب بالعربية كتابه " العالم الأصفر ". ومصادر الكتاب الأفلاطونية المحدثة العربية , والمشائية العربية والكلام الإسلامي . 
أما عن مصادره في الأفلاطونية المحدثة العربية , فإن فيدا يرى أنه تأثر بإبن جبرول , ومنه أخذ مادته عن الأفلاطونية المحدثة . ويرى فيدا أن يوسف بن صديق لم يكتف بابن جبرول , بل يبدو أنه قرأ كتاب " أمبدوقليس المزعوم " . ويستنتج فيدا أن يوسف بن صديق عرف آثار مدرسة ابن مسرة . ولم يدرك فيدا أن ابن جبرول نفسه كان تلميذا لابن مسرة . وأن كتاب "امبدوقليس المزعوم " الذي اثر في ابن مسرة , ومن خلاله اثر في ابن جبرول , ليس إلا آراء أفلاطونية متأخرة , صاغ فيها تلاميذ أفلاطون الكثير من آرائه وبخاصة في الهيولي المطلقة, وفي القدماء الخمسة على الخصوص ثم يرى فيدا أن ابن صديق قد قرأ أيضا أثولوجيا أرسططاليس ,وكانت قد وصلت نسخه العربية إلى الأندلس .
أما عن مصادره المشائية , فكانت أيضا كتب المشائين الإسلاميين من أمثال الفارابي وابن سينا . 
أما عن الكلام , فإن فيدا يرى يوسف بن صديق لم يتأثر هنا بالكلام المعتزلي – خلال سعديه وبهيا , بل تأثر بالأشعرية , وتبنى آراءها لكي يهاجم كتابات يوسف البصير القرائي , وكان تلميذا أمينا للمعتزلة .فتابع الأشعرية في تصورهم عن الصفات , وفي الجزء الذي لا يتجزأ كما تكلم عن الإرادة الإلهية , كما يتكلم أي أشعري , وهاجم المعتزلة هجوما عنيفا – ممثلة في شخصية يوسف البصير الذي اعتبر الإرادة مخلوقة . 
وظهر يهودا هالفي (1085-1140) وكتب كتابه خوزاري . وقد ادعى فيه أن ملك الخزر – وكان وثنيا- استدعى ثلاثة من العلماء – مسيحيا ومسلما ويهويا ,وعرض كل منهم أركان دينه وعقائده , وانتهى الأمر بالملك إلى اعتناق اليهودية , والقصة خرافية . ولكن ما يهمنا في الأمر هو إظهار الأثر الكلامي والفلسفي الإسلامي في كتاب خوزاري .
إن الكتاب في مجموعة هجوم على الفلسفة , كما عرضها ابن سينا ونقد لها . ويقرر فيدا أنه يدين بنقده للغزالي .
وظهر لدى اليهود متفلسفة سنيون صغار من أمثال إبراهيم بن داود فكتب كتابه " العقيدة الرفيعة " متأثرا خطى ابن سينا . وقد عرف ابن داود لدى المسيحيين باسم داود المترجم – ثم قتل في طليطلة بأيدي المسيحيين .
وما لبث أن ظهر لدى المسلمين " ابن رشد " شارحا كبيرا لأرسطو , ومحاولا العودة إلى أعماق المذهب المشائي الحقيقي , ومهاجما للمتكلمين , وبخاصة الأشاعرة . وكذلك ظهر لدى اليهود موسى بن ميمون , شارحا لأرسطو , ومهاجما للمتكلمين المسلمين واليهود , وقد هاجم ابن ميمون بالذات الأشاعرة وآراءهم .
وتعود القرائية فتظهر في القاهرة على يد آخر مفكريها " هارون بن ايلى" فكتب في العربية كتاب شجرة الحياة (عام 1346م) وهو مزيج من عقائد المعتزلة والفلسفة . والكتاب يشبه " دلالة الحائرين " في منهجه وطريقته . ويحوي فقرات وأخبار هامة عن الفلاسفة الإسلاميين الذي استمد منهم الرجل فلسفته.
ولست أود أن أخوض في الفلسفة اليهودية إن كانت هناك حقا فلسفة يهودية. إنما أود أن أنتهي إلا أنها لم تكن إلا ظلالا لفكر المسلمين وفلسفتهم مع تشويه هذا الفكر بمناصر من التوراة والتلمود. 

14‏/09‏/2014

من أخطاء الإسلاميين مطالبتهم بتطبيق الشريعة , لأن السلف من الصحابة لم يطبقوا الشريعة حرفياً وإنما طبقوا مقاصد الشريعة , فنحن نحتاج إلى تطبيق مقاصد الشريعة لنصل إلى العدل , لأن الغاية من شريعتنا العدل ولا يكتمل توحيد المؤمن إلا بالعدل .

فنجد في تراثنا 
أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يطبق الشريعة عندما رفض قطع يد السارق , ونجد أن سيدنا عثمان أعطى المطلقة ميراثها مع أنه لا يجوز للمطلقة أن ترث , فلو طبقنا مفهوم بعض الإسلاميين في تطبيق الشريعة الحرفية فإنه سيؤدي إلى إخراج الكثير من الصحابة والسلف من الإسلام لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله . 

وإلى من يعارضني فليطبق هذه الآية حرفياً " "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" يلا روح حارب الكفار بالبغال والحمير والسيوف

الصحابي الذي كلم ملك الفرس من جور الأديان إلى عدل الإسلام